أن تعدّ من 1 إلى 40 أمر بسيط للغاية، يستغرق نصف دقيقة من الوقت، ويقوم به حتّى الأطفال. أمّا أن تعمل سنة بعد سنة حتى تصل إلى ال 40، لدى مؤسّسة واحدة، وتكون أول موظف فيها يبلغ هذا الرقم، فأمر آخر غير عاديّ، يستغرق قسطاً بالغاً من العمر، ويمنحك إحساساً إستثنائياً، ولا أعرف التّسمية المناسبة لمن يقوم به

     أربعون عاماً من العمل لدى المدرسة اللبنانية، اكتملت مع نهاية العام الدراسي الماضي، أربعون احتياراً لاختيار واحد، أربعون معاناة مع الشّوق، أربعون غربة رائعة في هذا اللّبنان الصّغير الجميل بكلّ تفاصيله، أربعون تجربة ناجحة في مختبر الزّمن، أربعون ابتسامة سنوية عريضة على وجه يكبت أكثر ممّا يبوح، أربعون قراراً بالبقاء دون أيّ ندم، وأربعون دمعة بالطّبع في ليالٍ تتأخّر شمسها في الشّروق

     أربعون عاماً بحلوها ومرّها، تنتهي في مشهد يوقظ الماضي: طلاب قدامى قمت بتدريسهم خلال أعوامي الأولى، يتبوأون اليوم أفضل المراكز، يحضرون بعد غياب طويل لتحيّتي، وليخبروني بأنهم جاؤوا لتسجيل أبنائهم في نفس المدرسة. لقد كبروا وتزوّجوا وأنجبوا وبنوا ممالكهم الخاصّة. أيّة عاصفة تجتاحني، أيّة فرحة تغمرني، أيّ حبور يهزّني؟ وهل هناك في مسيرة التربية والتّعليم جائزة أكبر من هذه؟

     قد يتساءل البعض ممّن يقدّرون قيمة الوقت، عن سبب الكتابة عن تجربة شخصية لا تعنيهم، وعن الجدوى من استهلاك نظرهم في القراءة والتنقّل بين السّطور، وقد لا يرغبون في مواكبة الكلمات حتّى النّهاية، وإعطائي الفرصة للتّعبيرعمّا أودّ الوصول إليه

     هؤلاء أنفسهم سيغيّرون رأيهم، وسيعذرونني عندما تقع أعينهم على كلمة الانتماء. نعم، وبكلّ فخر، الانتماء إلى وطن خارج الوطن، وأسرة مترامية الأطراف ومتعدّدة الأطياف تحيا على تراب مختلف، وبيئة مدرسيّة مميّزة أحببتها حتّى أدمنتها والتصقتُ بها، وأعطيتها فكرّمتني، وأخلصتُ له فاحترمتْ وجودي وفرضتْ عليّ الوفاء

     وللتّوضيح، لست هنا لأجامل أحداً، أو أتقرّب من أحد، أو أمسح الجوخ لأحد، أو أبيّض صورتي أمام أحد. فقط، جئتُ واضحاً، شفّافاً، متواضعاً وحاملاً ثلاث رسائل قصيرة ومختصرة، آملاً أن تصل إلى عناوينها وتمسّ أصحابها

     رسالتي الأولى موجّهة إلى الطلاب الأعزّاء: سلاحكم عِلْمُكم

                  فما بنى الجهل في تاريخه وطناً                 بالعلم وحده يُبنى المجدُ والأممُ

     ورسالتي الثانية موجّهة إلى السّادة أولياء الأمور: مدرستكم اللبنانية بمنهجها اللبناني ولغاتها الثلاث، نعمة كبرى لكم ولأولادكم، يفتقدها الكثيرون حول العالم، وتتمنّاها الجاليات اللّبنانية الأخرى في بقية الدّول. فحافظوا على وجودها وتعاونوا معها، لأنها تستمدّ قوّتها من وفائكم

     أما رسالتي الثالثة فهي موجّهة إلى الزّملاء: تنتهون حين تتوقّفون عن العطاء والتّضحية، وحين تفقدون الانتماء. لذا، دعوني أدعو لكم وعليكم بأربعين عاماً من العمل لدى المدرسة اللبنانية، لتذوقوا ما ذقت وتشعروا بما أشعر، لعلّ المتسائلين منكم، يكتشفون لاحقاً السّبب الحقيقيّ الكامن خلف الكتابة عن هذه التجربة

                                                                                                   رباح طرابلسي

مسؤول العلاقات العامّة

Related Posts